الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عبد الحق غريب: لماذا تفشّى الفساد في الجامعات العمومية المغربية وتمدّد؟

 
عبد الحق غريب
 
جاء في الفصل 119 من الدستور المغربي ما يلي: "يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به".
 
والمقصود بمقرر قضائي هو الحكم الصادر عن المحكمة، أما قوة الشيء المقضي به فتعني أنه استنفذ كل صيغ الطعن، حيث مر من المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف ومحكمة النقض إلى أن أصبح الحكم نهائيا، وعندما يصل الحكم إلى هذه المرحلة تسقط قرينة البراءة.
 
وأنا أقرأ مقتضيات الفصل 119 من الدستور المشار إليه أعلاه والمقصود منه، تبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل يجوز لرئيس جامعة أو عميد كلية أو أي مسؤول في الجامعة، تحوم حوله شبهة ما أو متهم بتهمة ما، أن يستمر في منصبه وهو لم يستنفد كل صيغ الطعن؟ أم يجب عليه أن يقدم استقالته مباشرة بعد توجيه التهمة إليه، حفاظا على صورة وسمعة الجامعة واحتراما لأمانة المسؤولية.
 
قبل الجواب على هذا السؤال، دعونا أولا نلقي نظرة سريعة عما يجري في البلدان التي تُحترم فيها المسؤولية وأمانة المنصب أخلاقيا وقانونيا، والتي يُعتبر فيها مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة أحد مقومات الحكامة الجيدة.. في هذه البلدان، المسؤول الجامعي لا يقدم استقالته بسبب اتهامه بتبذير أو اختلاس المال العام أو ارتكابه خطأ إداريا جسيما فقط، بل تجده يسارع الزمن لتقديم استقالته حتى بعد وقوع مشكل عادي في مؤسسته، لا دخل له فيه.
 
الأمثلة عديدة في هذا الباب والمجال هنا لا يسمح لسردها، لذلك نكتفي بذكر أربع حالات بدول مختلفة، على سبيل المثال لا الحصر:
 
1- في بلجيكا، قدم عميد كلية الهندسة الحيوية بجامعة Gand استقالته في مارس 2022، بعد أن بثّ البرنامج العمومي "پانو" على إذاعة "VRT" تقريرا يشهد فيه حوالي عشرين طالبا بسلك الدكتوراه على إساءة استخدام السلطة والسلوك غير اللائق تجاههم من قبل الأساتذة والطاقم الأكاديمي.
 
2- في ماليزيا، قدم رئيس جامعة ماليزيا استقالته بعد أن تراجعت جامعته بمئة رتبة في تصنيف الجامعات العالمية، الذي نشرته مؤسسة "التايمز" عام 2005.. وقد أحدثت القائمة المنشورة نقاشاً حاداً على جميع مستويات الدولة بسبب تراجع جامعتين في ماليزيا، وتمت الدعوة إلى تشكيل لجنة ملكية للتحقيق في ذلك.
 
3- في كندا، قدم رئيس مجلس إدارة جامعة جزيرة الأمير إدوارد (UPEI) استقالته في يونيو 2023، بعد أسبوع من نشر تقرير ينتقد بشدة الجامعة لكونها لم تعد مكانًا آمنًا أو محترمًا لجميع الأفراد، ولا بيئة مناسبة للعمل أو التعلم.
 
4- في فرنسا، قدم عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في مونبلييه استقالته في مارس 2018، بعد الإخلاء العنيف على يد رجال ملثمين للطلاب، الذين احتلوا مدرجا في الكلية، احتجاجًا على قانون Vidal بشأن قواعد الالتحاق بالجامعات...
 
في المغرب، لم نسمع أبدا أن رئيسا أو عميدا قدم استقالته من منصبه، حتى وإن ثبت تورطه في اختلاس المال العام.. ما نسمعه هو الفضائح التي تقع في هذه الجامعة أو تلك، حيث لا يكاد يمر يومٌ دون أن تنفجر فضيحة أخلاقية أو مالية أو إدارية، إلى درجة أننا أصبحنا نخجل من أنفسنا أمام عموم المواطنين. للأسف ما يُلاحظ، في السنوات الأخيرة، هو أن بعض المسؤولين في الجامعة العمومية طبّعوا مع الفساد، وباتوا لا يجدون أدنى خجل أو حرج في تورطهم في هذه الفضيحة أو تلك... لقد ابتلينا بمسؤولين لا يستحيون.
 
وحتى لا أطيل، إليكم ثلاث حالات ضمن العشرات من الأمثلة، تبيّن أن التطبيع مع الفساد بات وكأنه خيارٌ في الجامعات العمومية، وأن الفساد تم إخراجه من دائرة المحظور إلى فضاءات المشروعية وأصبح يعتبر من الأمور العادية، ولا علاقة له بدماثة الأخلاق، بعد أن توارت الروادع الأخلاقية والقانونية إلى الوراء:
 
الحالة الأولى، تتعلق بالرئيس السابق لجامعة المولى إسماعيل، الذي توبع بتهمة "اختلاس أموال عمومية" كانت ستُصرف على البحث العلمي. وقد أصدرت غرفة الجنايات الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بمدينة فاس في مارس 2022 حكما في حقه يقضي بالسجن النافذ لمدة سنتين.. ورغم ذلك قدم ترشيحه "بلا حيا بلا حشمة" قبل أسابيع لمباراة شغل منصب رئيس جامعة المولى إسماعيل، وتم انتقاؤه ضمن المترشحين الثلاثة، الذين اختارتهم لجنة الوزير ميراوي، المكلفة بدراسة المشاريع، حسب ما تم تسريبه.
 
الحالة الثانية، تخص مديرا سابقا للمدرسة الوطنية للتجارة والتسيير في سطات كانت النيابة العامة لدى المجلس الأعلى للحسابات قد قررت متابعته لوجود قرائن على ارتكابه مخالفات في مجال التسيير المالي في مؤسسته، قد تثير مسؤوليته أمام المجلس في مادة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية... ورغم ذلك تم تعيينه مؤخرا نائبا لرئيس جامعة ابن زهر.
 
الحالة الثالثة، تهم نائب عميد بالجديدة استدعته الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في الدارالبيضاء أكثر من مرة للتحقيق معه حول شبهة فساد... وقد استمر في منصبه طوال المدة، التي كانت تحقق معه الفرقة الوطنية للشرطة القضائية. وها هو تم تعيينه هذه الأيام نائب عميد مؤسسة أخرى حديثة العهد في نفس المدينة، بالإضافة إلى أنه قدم ترشيحه في أكثر من مباراة لشغل منصب عميد الكلية...
 
في الحقيقة، لا يجب أن نستغرب من تشبث هؤلاء المسؤولين بالكرسي أو غيرهم، ما دام وزيرهم الذي يُفترض أن يكون نموذجا وعبرة لهم، بدوره لا يزال يعضّ بنواجده على الكرسي رغم كل الفضائح، التي تلاحقه، منذ تعيينه على رأس الوزارة إلى اليوم، والتي تناولتها وسائل الإعلام الوطنية والدولية، وكانت موضوع العديد من الأسئلة في البرلمان.
 
لقد أضحت الجامعة العمومية في السنوات الأخيرة مجالا لمختلف مظاهر الفساد، ومرفقا عموميا يسيّره مسؤولون فاسدون، مما انعكس سلبا على صورتها وسمعتها، وباتت تتعرض لهجمات إعلامية، من خلال نشر وتداول أخبار تسيء لمكانتها الرمزية في المجتمع وتخدش قيمتها لدى العموم، بالإضافة إلى احتلالها مراتب مخجلة في تصنيف أفضل الجامعات عربيا وإفريقيا وعالميا.
 
ما العمل؟
 
لنتكلم بصراحة.. الجامعة العمومية مستهدفة، وتتعرض للضربات من كل حدب وصوب، ولا أعتقد أنه يمكنها أن تخرج من هذا الوضع المزري والمخجل، وترقى إلى مصاف الجامعات العالمية، وتقوم بدورها الأكاديمي والفكري والعلمي خدمة للمجتمع، إلا إذا توفرت عدة شروط أبرزها اثنان:
 
- الشرط الأول، هو الإرادة السياسية الحقيقية للدولة لإصلاح الجامعة العمومية والرقي بها، تبدأ بمحاربة الفساد وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما هو معمول به في الدول الديمقراطية.
 
- الشرط الثاني، يتعلق بالحكامة الجيدة، التي يجب على الأساتذة الباحثين أن يلعبوا دورهم في تكريسها، وذلك من خلال تفعيل صلاحيات ومهام هياكلهم المنتخبة (مجلس المؤسسة ومجلس الجامعة)، عوض تحويلها إلى غرف للتسجيل.