الثلاثاء 6 يونيو 2023.. كان يوما حافلا في رواق دار التوحيدي في المعرض الدولي للكتاب في الرباط... في الصباح، كان اللقاء مع المحجوب بنموسى الذي وقّع كتابه "سفر المنفي.. رحلة من الحلم إلى الوهم"، موضوع هذه الوقفة.. وبعد الظهر، كان اللقاء مع محمد السكتاوي، الذي وقّع ديوانه الجديد "خلاءات"، وكانت له، في الموقع، وقفة أخرى خاصة...
في ذلك الصباح، حجّ كثير من الزوار، من مناضلين ومعتقلين ومنفيين سابقين إلى إعلاميين وفاعلين مدنيين وحقوقيين، وبينهما مختلف ألوان المتحدّرين من الحركة الاتحادية، وصولا إلى الاتحاد الاشتراكي، الذي آثر الكاتب الأول إدريس لشكر، ومعه أعضاء من المكتب السياسي، التوقف عند رواق التوحيدي، ومصافحة هذا الاتحادي الثوري الذي كان، واقتناء كتابه "سفر المنفي"، كما سأل عن ديوان محمد السكتاوي حيث اقتنى، أيضا، المجموعة الشعرية "خلاءات"... وكان لافتا حضور بعض الطلاب الشباب، وكانوا حريصين جدا على الحصول على توقيع المؤلّف، وبعضهم على صور معه كذلك، وبدت على عيني واحد منهم نظرات فيها مزيج من الدهشة والتقدير، كبّر الصورة المُلتقَطة له مع المحجوب من هاتفه، تأمل فيها مليا، ثم مضى متباهيا راضيا...
في الصباح، كان المناضل المحجوب بنموسى يحكي عن سنوات القمع والضياع وهجير المنافي في مسار الحلم، الذي انتهى إلى ما يشبه الوهم... كان بنموسى ينتمي إلى جيل أحداث 3 مارس، جيل آمن أن النظام الملكي على أبواب الانهيار، وأن كل ما يلزم للوصول إلى ذلك هو أن يتحرّك فتيان مغاربة يتأبطون أسلحتهم وأيديهم على الزناد لإطلاق رصاص الرحمة على نظام تربّص به جنرالات انتهى بهم الحال إلى الإعدام رميا بالرصاص...
قلت للمحجوب بنموسى إننا كنا ننظر إليهم، ونستعيد حكاياتهم، كأبطال أسطوريين، بغض النظر عن الاختلافات أو الاتفاقات حول أسلوب الصراع السياسي الدائر حول السلطة والحكم...
وبدأ المحجوب يستعيد معنا، بحكيه المبدع، بعض فصول وتفاصيل الأحداث، وعندما سأله الصديق العزيز نوفل البعمري عن أحداث الطرد من الجزائر من قبل جنرالاتها المتنفّذين، شرع المحجوب يتذكر، في ما يشبه الفضفضة، بعض الأحداث الحافلة، من قبيل ذلك الجنرال الجزائري، الذي جمع المنفيين المغاربة المطاردين من النظام المغربي، وقال لهم إن أهدافهم تتلاقى مع أهداف البوليساريو في حربها ضد المخزن، قبل أن يطلب منهم وضع اليد في أيدي صنائع الانفصال، لكن الجنرال سيتعرّض لصدمة أخرجته عن طوره، عندما واجهه جلّ المناضلين المغاربة بأن معارضتهم لنظام الحسن الثاني لا تعني أن يضعوا أيديهم في أيدي انفصاليين يعرفونهم جيدا، أصلا وفصلا، وقال له بنموسى إن مناطق الصحراء الغربية هي أقاليم مغربية، فانفجر الجنرال الجزائري غضبا وصلت شظاياه إلى توجيه صفعة للمحجوب، الذي كان حكيه أمامنا أشبه بحالة بوْحٍ حميمية، فاغرورقت عيناه بالدموع، ووجدتني، دون أن أدري، أكفكف دموعه وأقبّله على خدّه، وران صمت حزين على الحاضرين للحظات، رغم قصرها، لكنها كانت كافية ليعبّر الجميع، كلٌ بطريقته الخاصة، عن فيض من الحب والتقدير لهذا المحجوب بنموسى، التي رسمت تلك الدموع على وجهه مُسحة من البهاء والصفاء، التي رمتْ خلفها تواريخ العسف والقهر وكأنها هباء في خواء...
لم يكن المحجوب بنموسى وحده الذي ذرف دموع الأسى لما جرى من مآسٍ لمئات من المغاربة، الذين عمدت السلطات الجزائرية، بعد حدث المسيرة الخضراء، إلى طردهم من ديارهم رفقة بناتهم وأبنائهم في عز "الاحتفال" بعيد الأضحى، أحداث مأساوية يرويها بنموسى في "سفر المنفي"، حكى لي عنها الناشر أحمد المرادي ورفيقه الحقوقي مسعود بوعيش، وقال المرادي إنهما ذرفا الدموع حين انتهيا من قراءة تفاصيل المأساة، وستكون لنا وقفة خاصة مع هذا العسف الجزائري كما حكاه "المنفي" في سيرته ومساره "من الحلم إلى الوهم"...
كان بنموسى واحدا من أولئك "الأبطال بلا مجد"، الذين تحرّك العشرات منهم، في بداية سنة 1973، فعبروا الحدود الجزائرية إلى المغرب، مستهدفين الوصول إلى جبال الأطلس، وإطلاق عمل عسكري قوي ضد النظام المخزني، لكن سرعان ما تمكّنت منهم أجهزة الأمن، يوم 3 مارس (الذي كان يوافق عيد عرش الحسن الثاني) 1973، في معركة خاطفة في مولاي بوعزة قرب خنيفرة، انتهت بمقتل محمد بنونة ومحمد أسكور وإبراهيم التيزنتي، وانسحاب الآخرين للعودة إلى الجزائر، فيما اعتُقل 149 مناضلا من هذه الحركة الاتحادية...
وفي 25 يونيو 1973، قُدّم المعتقلون إلى المحكمة العسكرية في القنيطرة، بتهمة تهديد أمن الدولة، وصدر حكم الإعدام في حق 15 منهم، جرى تنفيذه يومين بعد عيد الأضحى، وأبرزهم عمر دهكون، وأجدايني، ومحمد بن الحسين المسمى هوشي مينه.
وفي 27 غشت 1974، نُفذ حكم الإعدام في حق مجموعة أخرى على رأسها إدريس الملياني، والمهتدي، وجناح، والحجيوي...
كانت مواجهة غير متكافئة خلّفت شهداء مغاربة، مهما تعارضت التقييمات السياسية تجاه أعمالهم وحركتهم، لكنهم كانوا مناضلين قدّموا حياتهم من أجل تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية للشعب المغربي، كما خلّفت منفيين، ممّن تمكّنوا من الإفلات من ملاحقات أجهزة الأمن، وضمنهم المحجوب بنموسى، الذي فتح، بروايته، "كوّةً" أخرى في ذاكرة هذه الأحداث، التي مازالت تخترقها الكثير من البياضات، يحتاج مَلْؤُها إلى المزيد من مثل هذه الشهادات، وإلى الكثير من "الحفر" من قبل المؤرخين والمختصين، لنكتب تاريخا "نسيا منسيا مهملا" لا أثر له، بَعدُ، في صحائف التأريخ الرسمي...
وفي انتظار وقفة أخرى لاحقة مع المحجوب بنموسى، فإن كتابه الجديد "سفر المنفي.. رحلة من الحلم إلى الوهم" جدير بالقراءة، فهو سيرة فردية وجماعية، سيرة شباب تأبطوا أحلامهم وحملوا أكفانهم على أكتافهم في سبيل تحقيق هدف "ثورة" تمنّعت سلميا فاختاروا أن يكون الحل هو المواجهة العسكرية، سيرة تحوّلات وطموحات وأخطاء وانكسارات، مع التحوّل الواقع في منظمة "الاختيار الثوري"، التي قادها الفقيه البصري، وصولا إلى قرار فصل الفقيه البصري من التنظيم...
يشار إلى أن المحجوب بنموسى، من مواليد مدينة مكناس، وهو مقيم في مدينة نوتردام في هولندا، وهو شاعر وقاص ومسرحي وممثل سينمائي، وحصل، بأعماله الهادفة، على أوسمة ملكية من العاهلة الهولندية...