الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

قصة حلم وغبار ومسار.. المفكر التنويري سعيد ناشيد ينال الحزام الأسود في رياضة الجيدو

 
جلال مدني
 
عندما تجالس المفكر التنويري والباحث والكاتب المغربي سعيد ناشيد، تكاد تبهرك تلك الآثار الطفولية البريئة، التي تظهر على ملامح وجهه، وفي حركاته، وفي حديثه... وخلال كل ذلك، تأسرك لطافته ورقّته الرفيعة حتى لقد يتوهّمها من لا يعرفه عن قرب وكأنها تعكس شخصية "رخوة" مهيّأة للانكسار أمام التقلّبات، العنيفة أحيانا، في المعيش اليومي وفي العلاقات والمواقف... لكن من يعرف ناشيد، يُكبر فيه ذلك التواضع وتلك الخصال، التي لا تَخفى فيها آثارُ تربية وأخلاق أهلنا الطيبين، فلا تجد أمامك إلا أن تحبّه، بوعي، وبتقدير كبير لهذا الذي يكون معك "صغيرا" وهو من طينة الكبار... لا يمكن إلا أن تحبّه على وجه اليقين والتأكيد، فإذا لم تفعل، فاعلم أن "طيور الظلام" وضعت بينك وبينه حجاب، وفي هذه الحالة، يحسن بك البعاد لأنك لا تستحق أن تعرف من يكون سعيد ناشيد...
 
سعيد ناشيد من مواليد سنة 1969، قضى طفولته الأولى في أزقة ودروب مدينة القراصنة والأولياء والشرفاء وأبرز معارضي سلطة المخزن في الرباط، الذي لم يكن يكفّ عن ملاحقة "المتمرّدين"، الذين كانوا يغلقون على مدينتهم الأبواب بعد عصر كل يوم، حتى لا يقتحمها خُدّام المخزن... كان ذلك زمان... واليوم لا تكاد سلا تختلف، إلا بنسبة محدودة، عن صورة وملامح ووجوه المعارضين والمتمردين والفقهاء والدّعاة السياسيين، ففي سلا شخصيات كبيرة وأعداد مهمة من قادة الحركة الوطنية بجناحيها السياسي والثوري المسلح، مثلما تجد أعدادا مهمة من معتقلي اليسار السبعيني، الذي كان يحلم بالثورة، وجزءٌ كبيرٌ من قادتهم كانوا من شباب سلا، وفي سلا، أيضا، تجد عتاة شيوخ الظلام، السلفيين منهم والإخوان... وفي سلا، كذلك، من أبنائها أو سكانها، تجد كوكبة من الكتاب والمثقفين والشعراء والفنانين والسياسيين والمؤرخين والمفكرين، وضمنهم سعيد ناشيد، بكثير من الجدارة والاستحقاق المبني على مساحة شاسعة من العقل والقراءات والأبحاث والسهر والاجتهادات والكتابات في العديد من مناحي الحياة، والفلسفة، والعيش، والحب، وتفكيك خطابات ومواقف وسلوكات الإسلام السياسي في إطار رؤية تنويرية لقضايا الإصلاح الديني...
 
وعلاوة على كل هذا وذاك، فمدينة سلا تعتبر اليوم عاصمة رياضة الجيدو (وتُكتب أيضا: الجودو)، وتتوفّر حاليا على أكبر وأبرز نوادي الجودو في المغرب، كما أن أكبر عدد من أبطال الجيدو هم من سلا... في هذه البيئة، تدرّج سعيد ناشيد في سنواته الأولى، إلى حين بلوغه الخامسة من العمر، فسجّله والده في واحد من هذه الأندية، حيث ظل مواظبا على تداريبه في هذه الرياضة القتالية، التي بدا أن سعيد الطفل توافق معها، وعرف كيف يزاوج بين ممارستها وبين إنجاز واجباته الدراسية... فلم يفارقها إلا حين بلغ من العمر 16 سنة، حين وجد نفسه ينتقل إلى مدينة أخرى وبيئة أخرى بعيدا عن زملاء الدراسة ورفاق التداريب وأصدقاء الدرب، إذ انتقلت عائلته للسكن في مدينة سطات...
 
في سطات، لم يجد الفتى المراهق أثرا لأي ناد للجيدو، فأيقن أنه بات في وضع الحرمان من ممارسة رياضته المفضلة، وطال ذلك الحرمان سنة، ثم عشر سنوات، فعشرين، بل أزيد من ثلاثين سنة، إلى أن عاد للسكن في مدينة سلا في سنة 2021... ولهذه العودة قصة مثيرة، شهادة إدانة على تغوّل طيور الظلام مسنودين بلوبي الفساد في وزارة التعليم، ليصدروا قرارا غبيا وقّعه رئيس الحكومة، الإخواني سعد الدين العثماني، ويقضي بتوقيف سعيد ناشيد، أستاذ الفلسفة في المديرية الإقليمية لسطات، عن العمل، حيث كشفت تطورات القضية أن هناك عملية مدبّرة بإعداد ملف مخدوم لكن مدروس بشكل دقيق لاستهداف سعيد ناشيد ليس فقط في منصب عمله، بل في شخصه وكرامته حتى وصل البؤس بهذه الشرذمة إلى التعرية عن أهدافها المريضة ببلاغ سيبقى سُبّة في تاريخ وزارة التعليم المغربية، حين استهدف تشويه سمعة سعيد ناشيد، الذي لم يكن مجرد أستاذ مغربي، بل هو أيضا، مفكر تنويري أغنى، ومازال، الخزانة المغربية والعربية بكتب تحفل بالاجتهاد وإعمال العقل ومراجعة المعتقدات، والكف عن الانحباس السلبي في أوهام الطابوهات، ووصل تأثير كتاباته إلى العالم وليس العرب والمسلمين وحدهم، بل ولهذا السبب بالذات، جاء قرار "العزل المهني" الغبي كمحاولة منحرفة لإسكات سعيد ناشيد ليتوقّف عن الفكر وعن التنوير وعن النشر، الذي يرعب فقهاء وشيوخ الظلام...
 
مازلنا نذكر تلك الأيام المقيتة، وتصاعدَ الغضب في أوساط أعداد وفئات كبيرة من المغاربة، عندما كان سعيد يحكي لنا ملابسات نزول قرار عزل أستاذ لم يسبق أن تلقى أي إنذار أو توبيخ، بل كل ما حدث أن الظروف الصحية الصعبة فرضت وضعا خاصا على أستاذ الفلسفة، فقدّم للإدارة ما يثبت ذلك بإجازات مرضية طبية مصادق عليها من اللجنة الطبية المختصة في الموضوع.
 
وهنا بالذات، سيدخل تحالف طيور الظلام بلوبي الفساد على الخط، فاستدعاه المدير الإقليمي لسطات، واستنطقه بحضور أحد المسؤولين في حزب العدالة والتنمية خارج أي إطار قانوني، وقال له بالحرف: "إذا كنت مريضا فيجب ألا تكتب، يجب أن تشرب الدواء وتخلد إلى النوم"، وطبعا سيرفض سعيد ناشيد هذا الابتزاز والتهديد، كان "الشانطاج" واضحا: "بغيتي نسكتو عليكْ، خصك حتى أنت تسكت"، لأن سعيد ناشيد، كطفل ومراهق وشاب وتلميذ وأستاذ وكاتب وباحث ومفكر، لا يمكن أن يكون من الساكتين، إذ لا يمكن أن يوقف مشروعه الفكري...
 
ومن حسن الحظ، أن هذه القضية، التي نظرت فيها المحكمة الإدارية، كان مآلها قرار قضائي عادل أنصف الأستاذ وألغى قرار عزله، قرار أعاد الاعتبار إلى مفكرنا التنويري باعتباره موظفا عموميا تعرّض لعملية عزل تعسّفي، بناء على ملف استهدف تشويه سمعة شخص، بعد أن تبيّن للقضاة أن كل تلك المخرجات والذرائع التي صنعتها وزارة التعليم لا تقوم على أساس وليس هناك ما يسندها على أرض الواقع...
 
لقد قلنا إن لهذه العودة إلى مدينة سلا قصة، هي في الواقع قصص، لخدمة تاريخ زماننا، نترك هذا الشق منها ونعود إلى سنة 2021، التي عاد فيها سعيد ناشيد إلى سلا... فما استراح له بال حتى هرع إلى ناديه للتسجيل فيه، ومعانقة الجيدو، تلك الرياضة التي يؤطرونها داخل حقل "فنون القتال"...
 
عماذا يبحث سعيد ناشيد؟ من يريد أن يقاتل؟ ألا تكفيه مرارات "قتال" الفكر فأراد أن يسنده بـ"قتال" الجسد، العضلات؟ في الواقع، لا هذا ولا ذاك، إذ لا أحد يمكن أن يرى في سعيد ناشيد صورة الإنسان المقاتل فيما هو أحد أبرز دعاة العقل والفكر والحرية والسلم والسلام... لكن الذي قد لا يعلمه الكثيرون، إلا الراسخون في "علم" القتال، أن ممارسي الرياضات القتالية، في غالبيتهم الساحقة، يكونون مسالمين، إلى درجة بلع الإهانة أحيانا دون رد عضلي، لأن ممارسة تلك الرياضة منحته سلما داخليا، ومنحته ثقة تكاد تكون بلا حدود في قدراته الذاتية، إلى الدرجة، التي يستنكف فيها عن مواجهة العنف برياضته القتالية، التي تمنحه سمو النفس واحترام القيم، التي هي ركن جوهري في جميع برامج فنون الدفاع عن النفس، كما تدعّم قدرته على التحمّل، والمرونة، والتوازن، وكذلك تفتح أمامه أبواب الجلوس مع نفسه، ومراجعة أفعاله وردود أفعاله في تدبيره لحركات الخصم، الذي قد يكون شخصا أو جماعة أو منظومة فكرية...
 
أليس في هذا بعضٌ من تأطير تلك العلاقة الخاصة والحميمية بين سعيد ناشيد ورياضة الجيدو؟ لا ندري، لكن ما ندريه، على وجه التأكيد، أن العودة إلى سلا وإلى الجيدو، كانت تشي بنوعٍ من عودة الروح، نوعٍ من محاولة ردم تلك الهوة التي تركها غيابٌ تعدى ثلاثة عقود، بدأ سعيد في التدريبات ثقيلا أو متثاقلا، لكن بهمّة أكبر، لعلّه، وهو في "لاصال"، وجد أو أبدع وضعا يحاور فيه كائنَ الجيدو في داخله، ولعل ذلك كان له أثر على مفكر مغربي يتقدّم إلى البساط حافي القدمين، بلباس الكيمونو الخاص، ليواجه تحديات الجسد، فأسعفته عضلاته، وانقادت له مطواعة تحت وقع إرادته الصلبة...
 
والنتيجة أن سعيد ناشيد، بعد سنتين (2021-2023) من التداريب المكثفة، تمكّن من استرجاع لياقته البدنية وقدراته الحركية، والبشرى السارة والجميلة أن ناشيد تقدم يوم الأحد الماضي، 7 ماي 2023، لاجتياز مباريات الدرجة الأولى من الحزام الأسود في رياضة الجيدو، التي جرت فعالياتها في المركب الرياضي ابن رشد في الرباط، وكما كان منتظرا، فقد اجتاز سعيد ناشيد المباريات بتفوّق وتميّز، وبإشادة من لجنة التحكيم...
 
وحظي سعيد ناشيد، يوم أمس الأربعاء، 10 ماي 2023، بتكريم جميل في الاحتفال، الذي نظمه لهذه المناسبة ناديه، وهو نادي المزرعة في سلا، وهنا لا تنتهي القصة، كل القصص مع سعيد ناشيد قد لا تنتهي، لسبب بسيط أنه، هنا أو هناك، أو في أي مكان، ما يلبث أن يدخل غمار إعمال العقل، فيداري محنة الوعي والوعي المتأخر، فيسائل "الوثوقيات" التي أرساها وأشاعها وقدسها العقل الناقل، ووصلت الاعتراضات على هذا المشروع الفكري، الذي يمضي فيه بثبات، إلى التعدّي على مصدر رزق أستاذ وزوجة وأبناء وعائلة، لكن ناشيد لا يرفع الراية البيضاء، إلى أن أنصفه القضاء، فقال بصوت مسموع: "نعم لقد قاضيتُ الدولة المغربية وفقا للقانون المغربي، غير أن المنتصر الحقيقي ليس أنا، بل دولة الحق والقانون. فتحية إكبار للقضاء الإداري المغربي، الذي اعتاد أن ينتصر للحق في مثل هذه القضايا المواطِنة"...
 
تحية لواحد من رموزنا التنويرية، سعيد ناشيد، ونهنّئه على نجاحه المتميز في نيل الدرجة الأولى من الحزام الأسود في رياضة الجيدو، ونطالبه بالمزيد، في كل شيء، في الفكر وفي الجسد...
 
وبين محاورة الفكر ومحاورة الجسد خيط رفيع لا يبلغ مرمى مداه سوى الراسخين في علم ترجمان الأشواق والنور والنوّار...