محمد السكتاوي يقدم درع تكريم المنظمة لمسعود بوعيش وفي الوسط الرئيس بوبكر لركو
محمد السكتاوي في التكريم الحقوقي لمسعود بوعيش: حين يصير الألمُ وقُودَ أمل
الكاتب :
"الغد 24"
محمد السكتاوي
تشرفتُ بتقديم درع تكريم المنظمة المغربية لحقوق الإنسان لصديقي المناضل مسعود بوعيش، أحد أطرها البارزين والقائد الطلابي السابق.. لحظة مؤثرة أصابت وجداني فارتعشت مواجع وطفت ذكريات ووجوه، وعلا أنين معذبين تحت أسياخ النار وحشرجات نهاية حيوات.
كنت أتمنى لو كان مقام الجلسة الافتتاحية لمؤتمر المنظمة المغربية لحقوق الإنسان يسمح لي بالحديث مباشرة مع صديقي مسعود، ولي اليقين أن صديقي المناضل العالي الأخلاق بوبكر لرگو رئيس المنظمة ما كان ليتردد ليقتطع من زمن الافتتاح حيزا لي لمثل هذا الحديث، غير أنه، وهو الحريص بطبيعته على الدقة في كل شيء، كان مقيدا بمواعيد البرنامج المكثف والذي يجب احترامه إلى أقصى حد..
ولكن قلت هذا لا يمنع من أن أخاطب صديقي المكرَّم علنا ملء القلب أمام الملأ على الفضاء الأزرق..
فكانت هذه المُسَارَّة:
صديقي بوعيش،
شعرتُ، وأنت تتلو كلماتك المصهورة في تاريخ جولات فرسان لم يترجلوا أبدًا، وظلوا شامخين إلى أن سقطوا غدرا أو صاروا مجهولي المصير، كأنني أسمع في القاعة الساكنة نبضهم ونبض غيرهم/ن ممن فقدناهم/ن في سنوات الحرائق والرماد...
جلستَ تحكي زمن الطفل الذي كُنتَه حين اشرأب برأسه بين السنابل كزهرة شقائق النعمان في جبال الريف، وأسرج، وهو بالكاد يفتح عينيه على الحياة قناديل الفلاحين الفقراء، ومن خلال سردك الشّجِي رأيتُ فيك كل أطفال جيلنا الذين ولدوا وهم بالفطرة يملكون خبرة السير في المفازات المحرقة والشعاب الوعرة للحرية في المنافي والغربة والمعتقلات.
مثل غيرك من أطفال المغرب المنسي في الهامش البعيد أو المدفون في الضواحي العشوائية للمدن ما كدت تخطو أولى خطواتك في المدينة بداية شبابك حتى دفعك القدرُ قائدا طلابيا في وضْع مأزوم اشتدَّ فيه التدافع السياسي ووصل الاشتباك الطبقي إلى نقطة اللاعودة، اصطفاف وتخندق ومواجهات وعنف وتجاذب قوي بين سلطة دولة بدأت تتغوّل وسلطة مجتمع أخذت تنخرها الهشاشة وتخترقها رياح السموم تخنق كلَّ صوت لا يُجاري هَوَى الحاكم.
لم تكن المعركة متكافئة بين أطراف الصراع الاجتماعي، في طَرَفٍ قوى بورجوازية هجينة مدعومة بالمصالح الاستعمارية، وطَرَف ثانٍ يصطف فيه المستضعفون والعمال والشباب، وطبيعي في مثل هذه الأوضاع الناشئة والمحتقنة أن تعلو الأصوات الشعبوية والمتطرفة واليائسة، وبين المطرقة والسندان يصير الناس حطبا لهذه المعركة، معتقلات سرية واختطافات واغتيالات وتعذيب وإعدامات خارج القضاء والقانون... سلطة عمياء تتقوى وتستبد، وشعب ينوء تحت سياط القمع يقاوم مجرداً من كل سلاح.
وكان طبيعيا أيضا أن تُفْتَح دهاليز السجون لتبتلعك ورفاقك الشباب والطلاب، قبل أن تصبح مطرودا من العمل وملاحقا قضائيا بتهم ثقيلة ليقذف بك القمع في الأخير إلى المنفى القسري.
يخيَّلُ لي، وربما أكون مخطئا، أننا بكل ما قدمناه من تضحيات عبرنا نصف الطريق وشرعنا أفقًا وأضأنا نجمة في حلكة ليل، لكن الكلفة الإنسانية كانت باهظة..
صديقي المناضل الذي صار الشيب يناوش عمره،
بين لقاء اليوم الذي تُكَرم فيه من طرف المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان، ولقائنا أول مرة في سجن لعلو بالرباط بعد انتفاضة الدارالبيضاء 1981، وكنتَ للتَّو أتممت دراستك الجامعية أو تكاد، أعادتني كلماتك التي استنطقت المسكوت عنه في مسار نضال جيل، وبُحْتَ فيها بما اختلج في وجداننا الجماعي من مشاعر في لحظة مفصلية لا تتكرر أمام شهود الحاضر والغائب، إلى زمن كنا نعقد فيه التسويات مع الموت ليمهلنا بعض الوقت لإنجاز التزاماتٍ تطوَّعنا القيام بها من أجل نهوض وطن أحببناه.
كلماتك تلك التي اختنقت بزفرة بكاء ولوعة فرح فتحتْ شريطا لا يُنسى من الأحداث كنا نصنعها وتصنعنا بإصرار أسطوري، وبروح مفعمة بالقداسة، دون أن نكون أبطالا في التراجيديا الإغريقية ولا قديسين يبشرون بمجد الرب على الصلبان، ولكن ربما كنا أكثر من هذا وذاك لا نحاصر طروادة من أجل امرأة ولا نقدم المواعظ في الأسواق الرومانية لتحطيم هيكل دين وإقامة آخر، إنما كنا نعرض أرواحنا وهي ثروتنا ومِلكيَتُنا الوحيدة قربانا لبناء وطن يكون السيد فيه الإنسان.
كثيرة هي تلك الأحداث بالفجيعة وبكاء الأطفال وزغاريد الصبايا والأمهات... أتذكر، ونحن نكاد نموت اختناقا داخل قبْو من إسمنت وحديد، نتخبط كما سمكة قذف بها خارج الماء استجلابا لبعض الهواء، كنا تسعة عشر معتقلا معزولين تماما عن العالم الخارجي، في غرفة جحيم موصد بأبواب من فولاذ وكأنها غرفة المحارق، بحثنا عن كوة زرقاء في سماء لا نراها نتصيد هبة نسيم ونزرع في الرؤية الأمل..
تذكرتُ ذلك الوضع الرهيب تحت الأرض وحدنا والصمت والبنادق على صدورنا، وارتجافات أصابع الجنود تهتزُّ على الزناد.
نعم كلماتك جعلتني أتذكر الذين ماتوا من شباب انتفاضة 20 يونيو 1981 بالرصاص في الشوارع أو اختناقا في قبو مغلق في الدارالبيضاء وسماهم تحقيراً وزير الداخلية السيء الذكر إدريس البصري "شهداء كوميرا"...
تذكرتُ أيضا أننا نجونا من الجحيم الموصد وسيق بنا إلى اصطبل يجاور مقبرة الرباط صار سجنا، وكيف كنت تجادل في حماس رفيقيْك في اللجنة التنفيذية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، محسن عيوش والفقيد حسن السوسي، حول أولويات النضال وتحالفات الفصائل والبرنامج المرحلي، ونحن نذرع ساحة السجن الصغيرة جيئة وذهابا، تطل علينا بين فجوات قضبان الحديد فوهات بنادق جند الحراسة، وكأننا نذرع الوطن كله، وتنهدُّ أمامنا أسوار قلعة السجن كالعهن المنفوش.
أربعون سنة مضت عن تلك المحنة التي لايُبْتَلى بها غير الصادقين، عبرنا فيها الفيافي الجذباء، يطاوعنا العمر وتحملنا الخطوات التي لا تتعب حتى ولو وهن منا الجسد، وكلما ادلهم الظلام وغابت عن أعيننا المسالك كنا نلتفت إلى الوراء فنرى لآلئ تلمع في التراب والحجر
هم رفاقنا الذين سقطوا على الطريق
وفي الأقبية المدفونة تحت الأرض
مازالوا معنا يرْعَوْننا ويُبدِّدون ظلمة الطريق بقناديل أرواحهم المشتعلة حتى نكمل المسير.
كلماتك يا صديقي، وأنت تستلم درع التكريم والوفاء من على منبر مؤتمر المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، تنضح بحنين حارق لأمهات ثكالى وأرامل سقطن بين سجن وسجن وهن يبحثن بين الأمل واليأس عن أحبائهن وأحبائنا الذين ودعناهم بلا مواعد ولا جنائز.