من بنسعيد إلى نبيلة منيب.. عودة الصوت اليساري إلى قبّة البرلمان
الكاتب :
"الغد 24"
بَصَمَت الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، نبيلة منيب، أمس في البرلمان، على حضور قوي أعاد، اليوم، ومنذ آخر مشاركة برلمانية لشيخ اليساريين الاشتراكيين محمد بنسعيد أيت إيدر، لليسار كلمته، وهيبته، وألقه، وشموخه...
المتأمل في تلك اللحظات الاستثنائية، التي كانت نبيلة منيب تقول كلمة اليسار، سيتذكر على التو تلك الإشراقات الجميلة والشامخة، عندما كان "الرفيق السي محمد"، يتناول الكلمة، يقف بطربوشه الخاص، ويتكلّم بلكنته الأمازيغية، ليعبّر عن مشاعر الشعب، عن أوضاعه، عن آماله وتطلعاته، وعن آلامه ومآسيه وانكساراته، وعن إرادته للتغيير، من أجل التحرر من كائنات حزبية وغير حزبية تجثم على الحياة السياسية، لحد الخنْق المبين...
ولج "السي محمد" البرلمان في الانتخابات التشريعية لسنة 1984، وانهالت عليه وعلى رفاقه، آنذاك، الاتهامات بـ"السقوط"، حتى قيل إنهم سمسروا في القضية و"باعوا الماتش". كان بنسعيد يبتسم ساخرا من هذه الاتهامات، قبل أن يتبين للمتهِمين، خلال مسيرة عقدين من الممارسة البرلمانية والقيادة الحزبية، أن الرجل لا يبيع ولا يباع، وأن قضايا الوطن لديه ليس متاعا للعرض في المزاد.
كانت المؤسسات المنتخبة حصان طروادة نحو السلطة عند البعض. بيد أن الحصيلة اليوم تجعل بنسعيد يرفع رأسه ليؤكد "نحن فخورون بالقول إننا ساهمنا في هذه المؤسسات دون أن نفقد أخلاقنا وروحنا. فالانتخابات والمؤسسات التمثيلية، بالنسبة لنا، هي مجال للنضال والمواجهة، وليس مكانا للامتيازات والمحاباة والفساد".
وسيظل التاريخ السياسي المغربي يذكر لبنسعيد مواقفه الجريئة على الواجهة البرلمانية، في طرح عديد من القضايا المشتعلة، ليس أولها ولا آخرها، مقاومة الضغط الذي طُوّق به من كل جهة، لثنيه عن الجهر بفظاعات تازمامارت، في وقت كان مثل هذا الحديث أدهى من مجرد تجاوز خطوط حمراء.
في هذه القضية وغيرها من اشتعالات المرحلة، كان شيخ الاشتراكيين المغاربة يعتقد أنه بين "القبول بالمخزنة والخطوط الحمراء، وبين الرفض القاطع للعمل السياسي داخل المؤسسات"، هناك طريق ثالث، من الداخل، الذي اعتبره ممكنا، وهذه الطريق بالذات هي التي يعمل الاشتراكي الموحد، بتؤدة وحكمة وتبصر وتدبّر، اليوم، على توفير القاعدة السياسية والفكرية للاعتماد عليها في بناء وحدة لليساريين الاشتراكيين المغاربة.
تلك الصورة، التي كان يملأها بنسعيد تحت قبّة البرلمان، والتي افتقدها الكثير من المغاربة، تعود، اليوم، بنسخة أخرى، في شخص نبيلة منيب وهي تطرح، في القبّة، أهم انشغالات وانتظارات الشعب المغربي...
تقدمت نبيلة منيب، بخطوات تابثة، وأنظار الحكومة تتوجه إليها بترقّب وتوجّس، حدّقت فيهم بإمعان، وحدقت في القاعة، ثم شرعت تتحدث يسارا بكثير من العنفوان، وتمضي رأسا إلى أخنوش بالتذكير بـ"المقاطعة"، التي آثر المنشقّون على الاشتراكي الموحد التنصّل منها، ثم معارضتها، فقد تكون مصالح أخنوش أكبر من مصالح الشعب، الذي خرجوا عنه... وقالت نبيلة إن لحظة تقديم البرنامج الحكومي هي لحظة "مسؤولية تتطلب الوعي بانتظارات الشعب المغربي، الذي أبدع أشكالا من الصراع الطبقي عبر الحراك الشعبي بالريف وجرادة، وعبر التنسيقيات والإلترات، وعبر حركة المقاطعة، وحركة مناهضة ارتفاع الأسعار..."، مشددة على أن الحفاظ على السلم الاجتماعي والأمن والاستقرار، يتطلب "سياسات شجاعة وقطائع مع الاختيارات التي أوصلتنا إلى أوضاع متأزمة ومركبة".
وأكدت نبيلة منيب أن أول شيء يجب القيام به لإرجاع الثقة للمغاربة هو إطلاق سراح المعتقلين السياسين، وفي مقدمتهم شباب الحراك الشعبي في الريف، والصحافيين، ورفع التضييق عن النشطاء والمثقفين لخلق جو من الانفراج والثقة... وقالت بوضوح: "مازلنا نعيش ديمقراطية الواجهة ورجوع السلطوية وضرب الحريات"، وتحدثت عن ضرورة تجاوز الفساد الممأسس، الذي يخترق دواليب الدولة، كما استعرضت مظاهر "انهيار منظومة القيم، وتنامي الفردانية والاستهلاكية والانتهازية، واستغلال مؤسسات الدولة للاغتناء غير المشروع، وهو ما يطرح علينا سؤوال الديمقراطية والإصلاحات العميقة الدستورية والسياسي والقطاعية المرتبطة به "...
وتبقى الخلاصة الأساسية، لكلمة 5 دقائق، هي التعبير عن موقف الاشتراكيين الوحدويين الحقيقيين، من الضرورة الملحة لتلبية "الحاجة إلى مجتمع حداثي ديمقراطي، لبناء ركائز دولة ديمقراطية، وبناء مجتمع المواطنة والمعرفة والمساواة والعدالة الاجتماعية والمناطقية"...
إنها لحظات معبّرة، بأمانة، وداخل قبة البرلمان، عن الصوت القوي لليسار الحقيقي، الذي من شأنه استعادة البناء الشامخ، الذي سهر عليه السي محمد بنسعيد لبنة لبنة ولسنوات طويلة، وآن الأوان، اليوم، ليعود إلى ذلك الألق والإشعاع، بكل مسؤولية، وبكل ثقة، وبكل أدب واحترام، ومن قلّل الأدب، يُعاد له الصاع صاعين، بأسلوب واثق يبقى مترفّعا عن الانحدار السياسي والأخلاقي كما وقع قبيل تناول نبيلة منيب للكلمة...
في لحظة، وأمام استغراب الحضور، وبالتأكيد أمام استغراب وسخرية من شاهدوا وقائع جلسة الردود على مشروع البرنامج الحكومي، يوم أمس الأربعاء... حيث ندخّلت ممثّلة فدرالية اليسار لتطالب بـ"النوبة"، ووجوب احترام "النوبة"، وأن "النوبة ديالها هي ماشي ديال نبيلة منيب"!؟
وعلّق بعض الظرفاء الماكرين بالقول: "آش هاذ الويل، وحدة جاية حاملة هموم البلد والشعب، وقضاياه الأساسية، ووحدة مضاربة مع شْعرها.. زعما النوبة، بحال الى قابطة السطل وكتتسنى نوبتها باش تعمر الما في الحمّام"...!
"قال ليه باك طاح.. جاوبو: من الخيمة خرج مايل"، هذا المثل المغربي الشعبي ينطبق حرفيا على سقطة النائبة البرلمانية فاطمة التامني عن تحالف فدرالية اليسار، وهي تدشن دخولها "المائل" إلى البرلمان، أثناء مناقشة مشروع البرنامج الحكومي، بمنطق الأطفال في القسم، حين يشتكي أحدهم للأستاذ، من زميله، قائلا "أستاذ هذا خدا ليا خبزي". وقد تجلى هذا المنطق، حينما اعترضت التامني على أخذ النائبة نبيلة منيب عن الحزب الاشتراكي الموحد للكلمة قبلها، قبل أن يتدخل رئيس مجلس النواب الطالبي العلمي، بما يشبه "القمعة"، ولسان حاله يقول لممثلة فدرالية اليسار: من أنتم؟ ولعل ذلك هو ما أثار حس التنذر والتفكه والسخرية من صاحبة "الرسالة" في البرلمان، التي رأى كثيرون أن كل همها محاولة أن تسجل هدفا في مرمى منيب عوض أن تسجله في شباك الحكومة ورئيسها وأغلبيتها، فكان أن تسببت في ضربة جزاء سجلتها منيب باحترافية عالية، عندما ظهرت بصورة عملاقة، إذ لم تتأثر، ولم تنفعل، وحتى لم تردّ، كانت تترفّع عن الرد، كانت أكبر بكثير جدا من أن تسقط في الرد، لأن قضية منيب ورفاق منيب وكل اليساريين الاشتراكيين الحقييقيين ليست فدرالية اليسار، ولا "سين" أو "صاد"، قضيتهم هي قضية وطن، وقضية شعب يتطلّع إلى الحرية والديمقراطية والإنصاف والمناصفة والمساواة الكاملة والعيش بكرامة وفي ظل عدالة اجتماعية... هذا ما كان يشغل بال نبيلة منيب، لحظاتئذ، لأنه الأساس من أجل مغرب الغد...
وسرعان ما طوى الحضور الشوشرة، ليكون المتلقّون في كل مكان على موعد مع صوت مغاير، لواحدة من أشرس الفعاليات السياسية في المغرب، تستعصي على الانكسار من أيما جهة كان، إذ إنها مرآة لشعب من النساء والرجال اليساريين الاشتراكيين...
بالنسبة لمنيب، وهذا ما قاله أغلب المتتبعين لحملتها، حتى قبل انتخابها في الاستحقاقات الأخيرة، إنها المفرد الذي يتجلى في الجماعة، إذ يمكنها، بمفردها، أن تشكل مؤسسة مُعارضة قائمة الذات، وهذا ما ظهر جليا، من خلال كلمتها الأولى في البرلمان، التي زلزلت القبة بمن فيها، بعد انتقادها لطريقة تديبر الانتخابات الأخيرة من خلال الاستعمال المفرط للمال، وكيف أدى ما وصفته بالفساد الانتخابي إلى إفراز أغلبية مطلقة، التي لا ينبغي لها أن تقتل منطق السياسة المبني على صراع الأفكار وصراع البرامج، فضلا عن انتقادها لديمقراطية الواجهة ورجوع السلطوية وضرب الحريات، وضرورة خلق شروط انفتاح سياسي يبدأ بإطلاق سراح المعتقلي السياسيين والصحافيين...
لقد أعادت نبيلة منيب الهيبة للخطاب اليساري، وعادت كلمة اليسار لترتفع داخل البرلمان، وكما كان بنسعيد بالأمس، ظهرت نبيلة منيب، اليوم، وكأنها لوحدها فريق برلماني معارض، لأن بجانبها وأمامها ووراءها مناضلون يساريون اشتراكيون حقيقيون، أما المندسون حيث شاؤوا لهم أن يتسلّلون...